بحث متقدم

قبل بیان المراد من الوصف المذکور نرى من المناسب الاشارة الى مقطع من الخطبة التی جاءت فیها الجملة المذکورة، ثم نعرج البحث على بیان المراد من العبارة. قال أمیر المؤمنین (ع) فی وصف رسول الله (ص): " طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ یَضَعُ ذَلِکَ حَیْثُ الْحَاجَةُ إِلَیْهِ مِنْ قُلُوبٍ عُمْیٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ وَ أَلْسِنَةٍ بُکْمٍ مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ وَ مَوَاطِنَ الْحَیْرَةِ ...".[1]

فقوله: طبیب دوّار بطبّه. کنایة عن نفسه کنایة بالمستعار فإنّه طبیب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، و کنّى بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم و نصب نفسه لذلک، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلوم و مکارم الأخلاق، و لفظ المواسم لما یتمکّن منه من إصلاح من لا ینفع فیه الموعظة و التعلیم بالجلد و سائر الحدود. فهو کالطبیب الکامل الّذی یملک المراهم و الأدویة و المکاوى لمن لا ینفع فیه المراهم یضع کلّ واحد من أدویته و مواسمه حیث الحاجة إلیه من قلوب عمى یفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم و الهدایة لسلوک سبیل اللّه، و من آذان صمّ یعدّها لقبول المواعظ، و تجوّز بلفظ الصمم فی عدم انتفاع النفس بالمواعظة من جهتها فهی کالصمّاء إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.

إذ کان الصمم یستلزم ذلک العدم، و من ألسنة بکم یطلقها بذکر اللّه و الحکمة، و أطلق لفظ البکم مجازا فی عدم المطلوب منها بوجودها و هو التکلّم بما ینبغی فإنّها لفقدها ذلک المطلوب کالبکم.

و قوله: متّبع. صفة لطبیب، و مواضع الغفلة و مواطن الحیرة کنایة عن قلوب الجهّال [الجهلة خ‏] و لذلک أشار إلیهم بأنّهم لم یستضیئوا بأضواء الحکمة: أى لم یکسبوا شیئا من العلوم و الأخلاق و لم یقدحوا بزناد العلوم الثاقبة الّتی تثقب سترات الحجب کما یستخرج بالزناد النار.[2]

وقال ابن ابی الحدید فی شرحه لهذه المقطع من الخطبة: إنما قال دوار بطبه- لأن الطبیب الدوار أکثر تجربة- أو یکون عنى به أنه یدور على من یعالجه- لأن الصالحین یدورون على مرضى القلوب فیعالجونهم- و یقال إن المسیح رئی خارجا من بیت مومسة- فقیل له یا سیدنا أ مثلک یکون هاهنا- فقال إنما یأتی الطبیب المرضی- . و المراهم الأدویة المرکبة للجراحات و القروح- و المواسم حدائد یوسم بها الخیل و غیرها- . ثم ذکر أنه إنما یعالج بذلک من یحتاج إلیه- و هم أولو القلوب العمی- و الآذان الصم- و الألسنة البکم أی الخرس- و هذا تقسیم صحیح حاصر- لأن الضلال و مخالفة الحق یکون بثلاثة أمور- إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج- أو بالإمساک عن شهادة التوحید و تلاوة الذکر- فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصی ففروع علیها.[3]

و تعرض المیرزا حبیب الله الخوئی للمقطع المذکور قائلا: و لا یخفى علیک أنّه لو کان الاشارة بلفظة ذلک فی قوله علیه السّلام: یضع من ذلک، إلى المراهم و المواسم لا بدّ أن یکون قوله، قد أحکم مراهمه و أحمى مواسمه، من باب التمثیل على سبیل الاستعارة، إذا المراهم و المواسم بمعناهما الحقیقی لا ینفعان للقلوب المتّصفة بالعمى، فلا معنى لوضعهما فیها، و لو کان المشار إلیه به الطبّ کان جملة یضع و ما یتلوها إلى قوله: و مواطن الحیرة، من باب التجرید، فیکون کلامه جامعا بین الاستعارة التحقیقیة و الترشیح و التجرید، حیث ذکر لفظ الطّبیب و أراد نفسه، و هو استعارة تحقیقیة و قرنها بما یلایم المستعار منه أعنى قوله: دوّار إلى قوله: مواسمه، و هو الترشیح، ثمّ قرنها بما یلایم المستعار له أعنى قوله: یضع، إلى آخر الکلام، و هو التجرید، و مثله قول الشاعر:

لدى أسد شاکى السّلاح مقذّف            له لبد أظفاره لم تقلّم‏

ثمّ لا یخفى علیک أنّ وصفه علیه السّلام القلوب بالعمى باعتبار أنّ القلب جار مجرى العین و غریزة العقل فیه جاریة مجرى قوّة البصر فی العین و قوّة الابصار لطیفة تفقد فی العمى و یوجد فی البصیر، و کذلک القوّة العقلانیة فی القلب الجاهل دون العاقل فنسبة البصیرة الباطنة إلى القلب کنسبة الابصار إلى البصر إلّا انّه لا مناسبة بینهما فی الشرف لأنّ القلب بمنزلة الفارس و البدن بمنزلة الفرس و عمى الفارس أضرّ علیه من عمى الفرس، و لموازنة البصیرة للبصر الظّاهر سمّاه اللّه تعالى باسمه فقال: ما کَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى‏.[4]

و هذه صفة المخلصین لله و المتحرقین على مصیر الانسانیة و الساعین لارشادها و هدایتها، یسعون لتزکیة النفوس و تطهیرها کما قال عز من قائل: " لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنینَ إِذْ بَعَثَ فیهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ یَتْلُوا عَلَیْهِمْ آیاتِهِ وَ یُزَکِّیهِمْ وَ یُعَلِّمُهُمُ الْکِتابَ وَ الْحِکْمَةَ وَ إِنْ کانُوا مِنْ قَبْلُ لَفی‏ ضَلالٍ مُبین‏".[5]

  

[1] نهج البلاغه، خ 108.

[2]شرح‏نهج‏البلاغة(ابن‏میثم)، ج 3 ، صفحة 42.

[3] شرح‏ نهج ‏البلاغة (ابن‏أبی‏الحدید)، ج 7 ، صفحة 183.

[4] المیرزا حبیب الله الهاشمی الخوئی، منهاج ‏البراعة فی ‏شرح‏ نهج ‏البلاغة ، ج 7 ، صفحة 284.

[5] آل عمران، 164.

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279356 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256902 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128055 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112873 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88917 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59624 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59353 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56809 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49380 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47110 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...