بحث متقدم
الزيارة
6192
محدثة عن: 2011/10/19
خلاصة السؤال
قرأت فی نهج البلاغة ان الإمام علیا (ع) قال لرجل من الخوارج "یا أثرم" أی عدیم الأسنان! فهل من الجدیر بأمیر المؤمنین (ع) أن تصدر منه هذه الإهانة؟!
السؤال
قرأت فی نهج البلاغة ان الإمام علیا (ع) قال لرجل من الخوارج "یا أثرم" أی عدیم الأسنان! فهل من الجدیر بأمیر المؤمنین (ع) أن تصدر منه هذه الإهانة؟!
الجواب الإجمالي

قد نجد أفراداً یقومون بتخریب شخصیة الطرف المقابل بالتهریج و الصراخ و إثارة الشغب، فالإسلام یسمح فی المقابل و تحت قانون "المقابلة بالمثل" الوقوف أمام استمرار هذه التصرّفات غیر المناسبة بعمل موجل للإهانة فی المقابل، أما أمیر المؤمنین (ع) فکان یقابل شعارات و تبلیغات خصومه من الخوارج و غیرهم بالإستدلال و السکوت فی أکثر الموارد و لا یرد الإهانة بالإهانة إلا فی موارد خاصة عندما یضطر إلی ذلک، و مورد السؤال منها. طبعاً لابد من الالتفات إلی ان عبارة "الأثرم" أو "عدیم الأسنان" لیس من الضروری أن تکون قد صدرت من أمیر المؤمنین (ع) للإهانة، و ذلک لأن مجتمعات ذلک الیوم کانوا کثیراً ما یُلقّبون الأفراد علی أساس مشخصاتهم الظاهریة خصوصاً إذا کانت فارقة، بدون أن یعتبر هذا اللقب نوع إهانة، و أقرب مثال علی ذلک هو لقب "الأشتر" لـ "مالک".

الجواب التفصيلي

نقرأ أولاً النص الذی اشرتم إلیه فی السؤال من نهج البلاغة (خطبة/184) ثم نجیب عن سؤالکم..و عبارة نهج البلاغة کالآتی: " و من کلام له ع قاله للبرج بن مسهر الطائی و قد قال له بحیث یسمعه «لا حکم إلا للّه»، و کان من الخوارج:

اسْکُتْ قَبَحَکَ اللَّهُ یَا أَثْرَمُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَکُنْتَ فِیهِ ضَئِیلًا شَخْصُکَ خَفِیّاً صَوْتُکَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِز".

لو قلّبنا صفحات التاریخ نشاهد ان الخوارج و بطرحهم لشعارهم الإنحرافی "لا حکم إلا لله" أرادوا التشکیک فی سعی أمیر المؤمنین (ع) إلی اتمام حرب صفین، و کذلک اعتبروا قبول الصلح –الذی لم یکن إلا نتیجة ضعفهم و حماقتهم- دلیل کفر الإمام علی (ع) و أخیراً هم یعتقدون ببطلان کل حکومة و من ثمّ بقبول الفوضویة.

لقد سعی أمیر المؤمنین (ع) مراراً بأن یثبت إبطال استدلالهم بالمنطق و الدلیل. [1] و لا یبخل باللین إذا تصوّر إنه قد ینفعهم فی بعض الموارد، کما ورد فی دعائم الإسلام. عن علی (ع) إنه خطب بالکوفة فقام رجلٌ من الخوارج فقال "لا حکم إلا لله" فسکت علی ثم قام آخر و آخر فلما أکثروا علیه قال کلمة حق یراد بها باطل لکم عندنا ثلاث خصال لا نمنعکم مساجد الله أن تُصلّوا فیها و لا نمنعکم الفئ ما کانت أیدیکم مع أیدینا و لا نبدؤکم بحرب حتی تبدءونا. [2]

و هناک نموذج آخر ورد فی تهذیب الأحکام: "أن علیاً کان فی صلاة الصبح فقرأ إبن الکواء و هو خلفه و لقد اوحی إلیک و إلی الذین من قبلک لئن اشرکت لیحبطن عملک و لتکونن من الخاسرین" فانصتَ علیّ (ع) تعظیماً للقرآن حتی فرغ من الآیة ثم عاد فی قراءته ثم أعاد إبن الکواء الآیة فانصت علیّ (ع) أیضاً ثم قرأ فاعاد إبن الکواء فانصت علی ثم قال "فاصبر إن وعد الله حق و لا یستخفّنک الذین لا یوقنون" ثم أتم السورة ثم رکع". [3]

مع کل هذا الإستدلال و الصفح، یوجد أفراد لیس عندهم أی سابقة علمیة و لا جهادیة و لم یکونوا معروفین فی المجتمع الإسلامی، لکنهم کانوا مفتونین بمن کان یتخذ تسقیط شخصیة أمیر المؤمنین (ع) أرضیة لطرح أنفسهم فی المجتمع حسب الظروف الراهنة. فمن الطبیعی لم یکن یُمکن الوصول إلی نتیجة مع هؤلاء الناس عن طریق المحاورة و المنطق و الاستدلال. و فی المقابل لا توجد أی حیلة أمام الأشخاص المذنبین و المتکبّرین إلا مخاطبتهم بلسانهم و مقابلتهم بطریقتهم. و العفو و الصفح إذا تجاوز عن حده لم یثمر إلا اعطاء المجال الأکثر للمهرئین و المهرجین و فی النتیجة إیجاد الفتنة بین أفکار الناس العامة.

الإمام علی (ع) کان یصف أمثال هؤلاء لکمیل بن زیاد بقوله: "... همج رعاع أتباع کل ناعق یمیلون مع کل ریح لم یستضیئوا بنور العلم و لم یلجئوا إلی رکنٍ وثیق". [4] و قد کان "برج بن مسهر" من هذه الفئة و إلا لو کان یُفتّش عن الحقیقة یُمکنه رفع إبهامه بعرضه علی الإمام علی (ع) أو علی أحد أصحابه و أنصاره حتی یصل عن طریق المنطق و الاستدلال العلمی إلی النتیجة المرضیة، لا إنه فجأة یلجأ إلی الهتاف و الصراخ بین الناس بدون أی مقدمة مستغلاً صبر الإمام و تحمله لا یرید من ذلک إلا أذیة الإمام (ع) و إهانته و نعلم من جهة أخری ان المقابلة بالمثل أمر مرضیّ فی الإسلام و مع مراعاة الشروط، حیث یقول الله سبحانه: "الشهَّرُ الحْرَامُ بِالشهَّرِ الحْرَامِ وَ الحْرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى‏ عَلَیْکُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَیْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى‏ عَلَیْکُمْ وَ اتَّقُواْ اللَّهَ وَ اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِین‏". [5]

ففی هذا المجال إذا رفع بعض الأفراد شعاراً ضد أمیر المؤمنین، یعتبره المجتمع إهانة له (ع) و اتهاماً له بالکفر و سعیاً فی تسقیطه فی المجتمع، و الأکثر من ذلک وسیلة لایجاد الانحراف فی المفاهیم و التعالیم الدینیة، ففی هذه الحالة من الطبیعی أن یکون الحق لأمیر المؤمنین (ع)فی أن یقابلهم بالمثل، و لکنه نجد کما ذکر لنا التاریخ إنه (ع) و فی أکثر الأحیان یردُّ علیهم رداً منطقیاً أو یرجّح السکوت، و حتی فی الحالات التی یری أن مقابلتهم بالمثل جائزة یستعمل کلمات تُحمل علی وجهین أحدهما الإهانة کمثل "إبن الحائک" و "الأثرم" الذی مرّ ذکره.

و فی مکان آخر نجد أمیر المؤمنین (ع) أطلق علی قائممقام الکوفة و کان شخصاً أنانیاً قد امتنع عن تمثیل أمر الإمام علی (ع) للجهاد بـ "إبن الحائک" محقراً له. [6] ففی النظرة الأولی یُمکن أن یکون معنی "الحائک" من الشغل بالحیاکة التی کانت فی ذلک الزمان تعتبر حرفة محقرة، لکن بمراجعة باقی الروایات [7] نجد أن مراده من الحائک هو (ذاک الذی یحوک الکذب) لا إنه أراد تحقیر هذه المهنة البسیطة.

"فالأثرم" نعنی بها "عدیم الأسنان" و یُمکن أن یکون المراد منها بیان خصوصیة خاصة للفرد لا أن المقصود منها إهانته، کما أن الأشتر التی هی بمعنی "مشقوق العین و الجفن" لم یکن المقصود منها الإهانة لمالک القائد الکبیر لحرس الإمام علی (ع). و یُمکن أن یکون المعنی الآخر "للأثرم" هو کنایة عن ضعف الاستدلال و المنطق و هی الصفة التی کان الخوارج مبتلین بها، و ذلک لأن الإنسان المحروم من المنطق کالمحروم من الکلام الطبیعی بسبب عدم امتلاکه للأسنان. بناءً علی ما مضی یجب القبول بأن کل أقوال و أفعال أولیاء الله یجب أن لا نُفسّرها علی معناها الظاهری.



[1]  کمثال علی ما نقول، ر.ک: نهج البلاغة، خ 40، ص82، إنتشارات دار الهجرة، قم، "و من کلام له (ع) فی الخوارج لما سمع قولهم لا حکم إلا لله قال (ع) کلمة حقّ یُراد بها باطل نعم إنه لا حکم إلا لله و لکن هؤلاء یقولون لا امرة إلا لله و إنه لابد للناس من أمیرٍ برٍّ أو فاجرٍ یعمل فی إمرته المؤمن و یستمتع فیها الکافر و یُبلّغ الله فیها الأجل و یُجمع به ألفیء و یقاتل به العدو و تأمن به السبل و یؤخذ به للضّعیف من القویّ حتی یستریح برّ و یُستراح من فاجرٍ".

[2]  التمیمی، المغربی، نعمان بن محمد، دعائم الإسلام، ج1، ص393، دار المعارف، مصر، 1385 هـ.ق.

[3]  الشیخ الطوسی، محمد بن الحسن، تهذیب الأحکام، ج3، ص35، ح39، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365 هـ.ش.

[4]  نهج البلاغة، کلام 147، ص496، إنتشارات دار الهجرة، قم. 

[5]  البقرة، 194.

[6]  المجلسی، محمد باقر، بحار الأنوار، ج32، ص86، مؤسسة الوفاءف بیروت، 1404 هـ.ق.

[7]  الکلینی، محمد بن یعقوب، الکافی، ج2، ص340، ح10، دار الکتب الإسلامیة، طهران، 1365 هـ.ش.

س ترجمات بلغات أخرى
التعليقات
عدد التعليقات 0
يرجى إدخال القيمة
مثال : Yourname@YourDomane.ext
يرجى إدخال القيمة
يرجى إدخال القيمة

التصنیف الموضوعی

أسئلة عشوائية

الأكثر مشاهدة

  • ما هي أحكام و شروط العقيقة و مستحباتها؟
    279311 العملیة 2012/08/13
    العقيقة هي الذبيحة التي تذبح عن المولود يوم أسبوعه، و الافضل ان تكون من الضأن، و يجزي البقر و الابل عنها. كذلك من الافضل تساوي جنس الحيوانات المذبوح مع المولود المعق عنه في الذكورة و الانوثة، و يجزي عدم المماثلة، و الافضل أيضاً أن تجتمع فيها شرائط ...
  • كيف تتم الإستخارة بالقرآن الكريم؟ و كيف ندرك مدلول الآيات أثناء الإستخارة؟
    256747 التفسیر 2015/05/04
    1. من أشهر الإستخارات الرائجة في الوسط المتشرعي الإستخارة بالقرآن الكريم، و التي تتم بطرق مختلفة، منها: الطريقة الأولى: إِذا أَردت أَنْ تَتَفَأَّلَ بكتاب اللَّه عزَّ و جلَّ فاقرأْ سورةَ الإِخلاص ثلاث مرَّاتٍ ثمَّ صلِّ على النَّبيِّ و آله ثلاثاً ثمَّ قل: "اللَّهُمَّ تفأَّلتُ بكتابكَ و توكّلتُ عليكَ ...
  • ماهي أسباب سوء الظن؟ و ما هي طرق علاجه؟
    128014 العملیة 2012/03/12
    يطلق في تعاليمنا الدينية علی الشخص الذي يظن بالآخرين سوءً، سيء الظن، و من هنا نحاول دراسة هذه الصفه بما جاء في النصوص الإسلامية. فسوء الظن و سوء التخيّل بمعنى الخيال و الفكر السيء نسبة لشخص ما. و بعبارة أخرى، سيء الظن، هو الإنسان الذي يتخيّل و ...
  • كم مرّة ورد إسم النبي (ص) في القرآن؟ و ما هو السبب؟
    112647 علوم القرآن 2012/03/12
    ورد إسم النبي محمد (ص) أربع مرّات في القرآن الکریم، و في السور الآتية: 1ـ آل عمران، الآية 144: "وَ مَا محُمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلىَ أَعْقَابِكُمْ وَ مَن يَنقَلِبْ عَلىَ‏ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضرُّ اللَّهَ ...
  • ما الحكمة من وجود العادة الشهرية عند النساء؟
    88885 التفسیر 2012/05/15
    إن منشأ دم الحيض مرتبط باحتقان عروق الرحم و تقشّر مخاطه ما يؤدي إلى نزيف الدم. إن نزيف دم الحيض و العادة النسوية مقتضى عمل أجهزة المرأة السالمة، و إن خروجه بالرغم من الألم و الأذى و المعاناة التي تعاني منها المرأة يمثل أحد ألطاف الله الرحيم ...
  • هل يستر الله ذنوب عباده عن أبصار الآخرين يوم القيامة كما يستر عيوب و معاصي عباده في الدنيا، فيما لو ندم المرء عن ذنبه و تاب عنه؟
    59523 الکلام القدیم 2012/09/20
    ما تؤكده علينا التعاليم الدينية دائماً أن الله "ستار العيوب"، أي يستر العيب و يخفيه عن أنظار الآخرين. و المراد من العيوب هنا الذنوب و الخطايا التي تصدر من العباد. روي عن النبي محمد (ص) أنه قال: " سألت الله أن يجعل حساب أمتي إليّ لئلا تفتضح ...
  • ما هو النسناس و أي موجود هو؟
    59313 الکلام القدیم 2012/11/17
    لقد عرف "النسناس" بتعاريف مختلفة و نظراً إلى ما في بعض الروايات، فهي موجودات كانت قبل خلقة آدم (ع). نعم، بناء على مجموعة أخرى من الروايات، هم مجموعة من البشر عدّوا من مصاديق النسناس بسبب كثرة ذنوبهم و تقوية الجانب الحيواني فيهم و إبتعادهم عن ...
  • لماذا يستجاب الدعاء أكثر عند نزول المطر؟
    56785 الفلسفة الاخلاق 2012/05/17
    وقت نزول الأمطار من الأزمنة التي يوصى عندها بالدعاء، أما الدليل العام على ذلك فهو كما جاء في الآيات و الروايات، حيث يمكن اعتبار المطر مظهراً من مظاهر الرحمة الإلهية فوقت نزوله يُعتبر من أوقات فتح أبواب الرحمة، فلذلك يزداد الأمل باستجابة الدعاء حینئذ. ...
  • ما هو الذنب الذي ارتكبه النبي يونس؟ أ ليس الانبياء مصونين عن الخطأ و المعصية؟
    49247 التفسیر 2012/11/17
    عاش يونس (ع) بين قومه سنين طويلة في منطقة يقال لها الموصل من ارض العراق، و لبث في قومه داعيا لهم الى الايمان بالله، الا أن مساعيه التبليغية و الارشادة واجهت عناداً و ردت فعل عنيفة من قبل قومه فلم يؤمن بدعوته الا رجلان من قومه طوال ...
  • ما هي آثار القناعة في الحياة و كيف نميز بينها و بين البخل في الحياة؟
    47087 العملیة 2012/09/13
    القناعة في اللغة بمعنى الاكتفاء بالمقدار القليل من اللوازم و الاحتياجات و رضا الإنسان بنصيبه. و في الروايات أحيانا جاء لفظ القناعة تعبيرا عن مطلق الرضا. أما بالنسبة إلى الفرق بين القناعة و البخل نقول: إن محل القناعة، في الأخلاق الفردية، و هي ترتبط بالاستخدام المقتَصَد لإمكانات ...